أزمة الدين الأمريكي ومسـتقبل الدولار في ضوء آفاق التغيّر في النظام الاقتصادي العالمي
على الرغم من أنّ الدولار الأمريكي مجرد عملة ورقية لم تعدّ تغطيها كميات مناسبة من الذهب أو الانتاج السلعي الحقيقي, إلاّ أنّهُ شـاءَت أوضاع النظام العالمي، بما تضمنتهُ من متغيّراتٍ اقتصادية وسـياسية, أن تمتلك هذه العملة زمام الهيمنة على الأرصدة والتعاملات الدولية، وأن تسـتمد سعر صرفها مقابل العملات الأخرى، من حالة الانتشار والطلب العالمي الواسع على الدولار الأمريكي، بوصفهِ العملة الدولية الرئيسـة التي تحتاج اليها جميع الاقتصادات العالمية، والتي لا يمتلك حقّ طباعتها واصدارها إلاّ البنك الفدرالي الأمريكي. فلقد ارتبطت هذه السمات التي توفرت للدولار الأمريكي، بقدرة الولايات المتحدة على طبع المزيد من الدولار, فضلاً عن زيادة اعتمادها على الديون الخارجية، عبر بيع سندات الخزانة الأمريكية واحكام الارتباط بين الدولار الأمريكي والدين الأمريكي، حيث أصبحا صنوَين لا يفترقان في تعزيز الهيمنة الأمريكية، والتمكّن من الحصول على التمويل اللازم لإدامة النفقات الحكومية المتزايدة للولايات المتحدة، عبرَ الرفع المسـتمر لسـقف الدين الأمريكي والقدرة على تمويل هذه النفقات، عن طريق المصادر الواسعة التي يُؤمنها الدولار الأمريكي.
أولا- دور الدولار والدين الأمريكي في دعم الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي:
بعد إعلان استقلال أمريكا عن بريطانيا عام 1776، بدأ التفكير في إيجاد عملة لأمريكا، من أجل توحيد التعاملات المالية بين ولاياتها وفق عملةٍ موحّدة سـمّيت بـ (الدولار), وكان الدولار في بادئ الأمر معدنيًا, وقد تأخّر ســك هذه العملة حتى عام 1792، حيث سـكّت وفق ثلاث فئات (ذهبية وفضية ونحاسية), إلاّ إنّ اندلاع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب الأمريكي، قد تطلّب الكثير من الموارد المالية، جعلت الدولار المعدني غير كافٍ لتلبية احتياجات النفقات الأمريكية، ممّا أدى إلى التحوّل من استعمال الدولار المعدني إلى استعمال الدولار الورقي في عام 1862, وهي العملة التي أصبح لها الشـأن الأكبر بين العملات الدولية، في ظل النظام النقدي الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية.
ففي أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، تم عقد اتفاقية (بريتون وودز) في عام 1944, والتي تم بموجبها تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفيما بعد منظمة التجارة العالمية، وقد أنيطت مهام إدارة النظام النقدي الدولي بصندوق النقد, في حين تولى البنك الدولي مهام إعمار ما خربتهُ الحرب, أما منظمة التجارة العالمية التي تأسست في عقد التسعينيات, فأنيط بها مهام تنظيم التجارة الدولية، وفق المعطيات التي نجمت عن دخول النظام العالمي في عصر العولمة، وازدياد النفوذ الأمريكي بعد تفكك الاتحاد السـوفيتي السابق, جنبًا إلى جنب مع المهام الجديدة للمؤسسات الاقتصادية العالمية الأخرى.
لقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب الثانية كقوة اقتصادية وعسكرية كبيرة، لم تتضرر من الحرب مثلما تضررت الدول الأخرى, ومن ثم فقد كان التعويل على الاقتصاد الأمريكي، وعلى ما كان يتمتع بهِ الدولار الأمريكي من قوة مقابل عملات الدول الأخرى، من أجل توفير الموارد المالية لإعادة الإعمار. وقد أعطى نظام النقد الدولي، الذي تشكّل بعد الحرب الثانية، للولايات المتحدة أفضلية في اعتماد عملتها (الدولار الأمريكي)، كعملة استخدامات دولية واسعة في الاحتياطيات والمدفوعات الدولية، مقابل التزام الولايات المتحدة بتحويل الدولار إلى ما يقابلهُ من ذهب (35 دولار للأوقية الواحدة)، من أجل تمكين الدول الأخرى، التي رضيت بهيمنة الدولار على نظام النقد الدولي، من الحصول على الموارد الحقيقية لتطوير اقتصاداتها.
إلاّ إنّ بوادر العجز، ومنذُّ عقد الخمسـينيات من القرن الماضي، ظهرت في ميزان المدفوعات الأمريكي، بسبب التراجع في الصادرات الأمريكية مقابل ازدياد القدرات الاقتصادية، التي أخذت تحرزها الدول الصناعية الأخرى، على أثر التطوّر في مجالات الاستثمار والانتاج، وزيادة حجم صادراتها إلى الأسواق الأمريكية, مقابل انخفاض الاحتياطيات الأمريكية من الذهب, حيث أخذ العجز يدُبّ في الاقتصاد الأمريكي، وقدرته على تحويل الدولار إلى ما يقابلهُ من ذهب, فلقد وسـّعت الحروب الأمريكية وتدخلاتها الخارجية, ولاسيّما الحرب على فيتنام (1956ــ 1975) من حاجة الولايات المتحدة إلى الموارد المالية، وإلى المزيد من طبع الدولار خارج نطاق الكميات المتوفرة من الذهب، في وقتٍ ازداد فيهِ العجز المزدوج في ميزان المدفوعات والموازنة الأمريكية، والذي نجم عن انخفاض قدرة الصادرات الأمريكية مع ازدياد الانفاق الحكومي والانفاق العسكري, بشكلٍ خاص, لتمويل الحرب والتوسـع في انشاء القواعد العسكرية الأمريكية في الدول الأخرى, إلى جانب المساهمة في تلبية المتطلبات من النفقات الاستهلاكية للفرد الأمريكي.
وبحلول عام 1971، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الايفاء بالتزاماتها بتحويل الدولار إلى ما يقابلهُ من ذهب, ممّا أوجب التحوّل نحو أسلوب التعاملات الدولية الورقية من الدولار غير المغطى بالذهب، أو ما يقابلهُ من انتاج سـلعي حقيقي، استناداً إلى الواقع الجديد للاقتصاد الأمريكي المدعوم، باتساع قطاع الانتاج العسكري، وزيادة الاعتماد على القروض الخارجية، في ظل سـياسة الرفع المستمر لسقف الدين الأمريكي، لتعزيز حالة الثراء الظاهري التي أصبح يسـتمدُ منها الدولار الأمريكي قوتهُ الجديدة. وهذا يعني أنّ القبول الدولي بهيمنة الدولار الأمريكي على نظام النقد الدولي، جاء نتيجة الظروف الاقتصادية التي كانت ســائدة في أعقاب الحرب الثانية, والتي جعلت من الاقتصاد الأمريكي يحتل المركز الاقتصادي الحقيقي الأول في الاقتصاد العالمي.
لقد وفرَّ نظام النقد الدولي, حتى بعد تخلي الولايات المتحدة عن تحويل الدولار إلى ما يقابلهُ من ذهب, استمرار بقاء هيمنة الدولار على الاحتياطيات والمدفوعات الدولية، دون وضع ضوابط على الولايات المتحدة، في مجال تحديد معايير طبع الدولار والاصدار النقدي الجديد, الأمر الذي مكّن الولايات المتحدة وهي التي تمتلك قرار طبع الدولار, من توظيف عملية طبع الدولار لخدمة مصالحها المالية والاقتصادية، ولتسديد ديونها العامة الخارجية، وكذلك ديون القطاع الخاص في أوقات الأزمات باعتماد حزم الانقاذ, عن طريق المزيد من الاصدار النقدي الجديد للدولار غير المرتبط بإمكانات جهاز الانتاج الحقيقي للاقتصاد الأمريكي، في ظل استمرار الطلب الدولي الواسع على الدولار، الذي يسهم في امتصاص فائض العرض من كميات العملة المصدرة، والحفاظ على سعر صرفهِ مقابل العملات الأخرى.
وفي ضوء ما تقدم، فقد أصبح الدولار الأمريكي يسـتمدُ قوتهُ من عددٍ من العوامل خارج نطاق المعطيات الحقيقية لأداء الجهاز الانتاجي الأمريكي وأداء الموازنة الفدرالية الأمريكية, ومن هذه العوامل:
1- حجم التعاملات الدولارية في الأسواق المالية العالمية، والأرصدة من الاحتياطيات الدولية والمبادلات التجارية, ومنها المدفوعات عن الاستيرادات النفطية.
2- حجم الطلب العالمي على الدولار الأمريكي المرتبط بحجم التعاملات الدولية, ومعادلة سعر صرفهِ مقابل العملات الأخرى اسـتناداً إلى معطيات العرض.
3- قدرة الولايات المتحدة على طبع الدولار وإصداره بشـكلٍ مسـتمر، بما يتناسب مع مصالحها واحتياجاتها، لكونه يمثّل عملتها المحلية ذات الطلب العالمي الواسع, ويشكّل مصدرًا مهمًا من مصادر نفوذها العالمي، واسـتمرار نظام القطب الواحد.
4- الديون الأمريكية واضطرار الدول الدائنة إلى دعم الدولار الأمريكي، عبر آلية شـراء سـندات الخزانة الأمريكية، للحيلولة دون عجز الاقتصاد الأمريكي ووقوعهِ في الأزمات، التي تنعكس على بقيّة الاقتصادات العالمية، في ظل سياسة رفع سقف الدين بشـكلٍ مسـتمر، لضمان قدرة الولايات المتحدة على سـداد ديونها المتزايدة.
5- ضخامة حجم الانتاج العسكري الأمريكي، والقوة العسـكرية الأمريكية المدعومة بالدولار، والتي تؤمّن للولايات المتحدة اسـتمرار الهيمنة الاقتصادية والعسـكرية على النظام العالمي.
ثانيا- فكرة سـقف الدين وتفاقم الارتفاع في الدين الحكومي الأمريكي:
يمثّل سـقف الدين الأمريكي الحد الأقصى من قيمة القروض الخارجية الحكومية المسموح للحكومة الأمريكية اقتراضها، فمنذُ عام 1917 تم وضع سـقف للدين الأمريكي المسموح باقتراضهِ، والذي كان في حدود (11) مليار دولار، والسماح برفع السقف كلما تطلبت الضرورة. وعلى أثر الأزمة المالية التي تعرض لها الاقتصاد الأمريكي والعالمي في عام 2011, كان سقف الدين في حدود (14,3) تريليون دولار, وقد أدى اشــتداد الأزمة إلى تجاوز الدين الأمريكي لهذا السقف, ومن ثم كانت هنالك مطالبة من قبل الديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي برفع سقف الدين، لكي تتمكّن الولايات المتحدة من الايفاء بالتزاماتها المالية الواسعة, وقد تم التوصل إلى اتفاق بين الديمقراطيين والجمهوريين برفع سقف الدين مع خفض الانفاق الحكومي, إلاّ إنّ أزمة عام 2011 كانت قد تعمقت، وأدى ذلك إلى اضطراب الأسواق المالية، وركود الاستثمارات في العديد من الاقتصادات العالمية, ممّا جعل وكالة التصنيف الائتماني الدولية ((S&P، تُعيد النظر في التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من ( AAA) إلى ( + AA ) منذُ عام 2011. وقد شـكّل ذلك بداية حقيقية لفقدان الولايات المتحدة جانبًا مهمًا من جدارتها الائتمانية، والتي يمكن أن تتعمق بدرجةٍ أكبر في ظل أزمات الديون التي تواجهها باســتمرار.
لقد توالت عملية رفع سقف الدين لمراتٍ عديدة، حتى بلغ (28,4) تريليون دولار في عام 2019, إلاّ إنّ هذا السقف لم يعد يتناسب مع حالة التوسع في الانفاق الحكومي الأمريكي، فظهرت أزمة تسـديد الدين في عام 2021 والمطالبة برفع سـقفهِ مرة أخرى، لتأمين عدم تخلف الولايات المتحدة عن سـداد ديونها، ولتجنب حصول أزمة مالية كبيرة, وتم رفع سـقف الدين من قبل الكونغرس الأمريكي إلى مستوى (28,9) تريليون دولار, وكان ذلك كافيًا لعدم تخلف الولايات المتحدة عن سـداد الديون. وفي عام 2022 بلغ حجم الدين الأمريكي نحو (30,6) تريليون دولار, واستمرت الديون بالزيادة حتى وصلت إلى (31,4) تريليون دولار منذ أوائل عام 2023, وقد تجاوز الدين هذا المستوى، وهو ما يمثّل أزمة الدين الأمريكي التي ظهرت بوضوح في أيار من عام 2023, وشـكّل هذا المستوى من الدين ما نسـبتهُ (125%) من الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي. وكانت أعلى الدول الدائنة للولايات المتحدة, اليابان (1,08) تريليون دولار, والصين (870) مليار دولار, والمملكة المتحدة (645,8) مليار دولار. وفي خضمّ حالة الاتسـاع في حجم الديون الأمريكية, فإنّ نسـبةً كبيرة من سـندات الخزانة الأمريكية يتم شـراؤها من قبل بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي, وهو ما يُســهّل قيام وزارة الخزانة الأمريكية بدفع الفوائد على هذه السـندات، أو سـداد قيمتها إلى بنك الاحتياطي الفدرالي, ومن ثم يُعيد بنك الاحتياطي الفدرالي تدويرها إلى وزارة الخزانة الأمريكية, وهذا يعني تسهيل عملية خدمة الديون الحكومية الخارجية محليًا, اسـتنادًا لما تقدمهُ خاصية امتلاك الولايات المتحدة للدولار، بوصفهِ عملة محلية, من مزايا في خدمة الدين والســداد.
إنّ مشكلة الدين الحكومي الأمريكي، هي مشكلة بنيويّة تتعلق بتفاقم الاختلال بين التدفقات المالية الواسعة والتدفقات السلعية في هيكل الاقتصاد الأمريكي, فضلاً عن الاختلال البنيوي بين الانفاق الحكومي الواسع وقدرة الاقتصاد على تغطية هذا الانفاق. فعلى الرغم من أنّ الدين الحكومي الخارجي لليابان تتجاوز نسـبتُهُ قيمة ناتجها المحلي الاجمالي, إلاّ إنّ اليابان لم تهتم بتحديد سقف لديونها الخارجية، بل اهتمت بمعدلات النمو الاقتصادي التي يحققها ناتجُها المحلي الاجمالي ســنويًا، والقدرة التي تمتلكها أجهزتها الانتاجية على بلوغ هذه المعدلات، مع خفض نفقات الحروب والاستهلاك, وكذلك فعلت الصين التي ركّزت في تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي، وتقليل الانفاق الاستهلاكي وترشـيد نفقاتها العسـكرية, ممّا يُبيّن مدى التأثير الذي يُمارسـهُ عدم ضبط الانفاق الحكومي الأمريكي ولاسيّما النفقات العسكرية, في تطوّر حدوث الأزمات في الاقتصاد الأمريكي وانعكاساتها على بقيّة الاقتصادات العالمية.
إنّ ايجاد فكرة رفع سقف الدين الأمريكي، وتكرار ذلك لمراتٍ عديدة خلال السنوات الماضية, إنّما يمثّل سـعيّ الولايات المتحدة للحفاظ على الأنماط الاستهلاكية التي اعتاد عليها المجتمع الأمريكي، والزيادات المستمرة في الانفاق العسكري بتمويلٍ من فوائض اقتصادات الدول الأخرى, ومن ثم فقد أصبحت الديون الأمريكية تمثّل انعكاساً لعمق الأزمة الاقتصادية البنيوية، التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي, كما أصبحت عملية رفع سقف الدين في كل مرة، تمثّل حلاً مرحليًا لتجنب الانهيار المالي والاقتصادي وتأجيله، عن طريق المزيد من القروض لإدامة الآلة العسكرية الأمريكية، وأنماط الانفاق الاستهلاكي التي اعتاد عليها المجتمع الأمريكي. وفي كل مرة تَعد الولايات المتحدة التخلف عن سداد الديون ليس خيارًا مطروحًا, لأنهُ يعني الوقوع في أزمة مالية واقتصادية شاملة، يمكن أن تبدأ في الاقتصاد الأمريكي، وتنتشر إلى عموم الاقتصادات العالمية الأخرى, وقد يكون من تداعياتها:
1- الخشـيّة من تكرار ما نجم عن الأزمة المالية في عام 2011 من تداعيات على الاقتصاد الأمريكي والاقتصادات العالمية الأخرى، في حالة عدم رفع سقف الدين الأمريكي وعجز الولايات المتحدة عن سداد ديونها.
2- التراجع في حجم التداولات في الأسواق المالية العالمية، وانخفاض أسعار الأسهم والسندات, وما يتضمنهُ ذلك من انسحابات وخسائر مالية كبيرة، في مجالات الاستثمار المختلفة للشركات والمصارف المنتشرة حول العالم.
3- وقوع الاقتصادات العالمية في أزمة جديدة من التضخم الركودي، وانخفاض مستويات الاستثمار والانتاج، وارتفاع معدلات البطالة, في ظل عدم قدرة الدول المتضررة على زيادة الانفاق الحكومي، والتعويض عن حجم الأضرار التي يمكن أن تنجم عن الركود والتضخم، الذي يصيب اقتصاداتها من جرّاء التداعيات الناجمة عن الأزمة.
4- انخفاض صادرات الدول الصناعية إلى الأسواق الأمريكية، ممّا يزيد من تداعيات الأزمة وحجم الأضرار التي تصيب موازين مدفوعاتها, بما يسهم في زيادة اضطراب حركة التجارة الدولية, ولاسيّما بالنسبة للدول التي تعتمد صادراتها على الأسواق الأمريكية.
5- حصول انخفاض كبير في قيمة الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى، وما يترتب على ذلك من خسائر يمكن أن تلحق بالأرصدة الدولارية، التي تمتلكها دول العالم والمستثمرين في سندات الخزانة الأمريكية.
إنّ استمرار الولايات المتحدة في رفع سقف ديونها الخارجية كلما تعرضت لعجزٍ عن سـدادها, قد شـكّل حالة راسـخة مسـتمرة وحلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها, في ضوء منطلقات الاستمرار في سياسة الهيمنة على النظام العالمي، والقبول باستمرار الانفاق العسكري الهائل, فمثلما ينجم عن فكرة رفع سقف الدين ثراءً ظاهريًا يُمكّن الولايات المتحدة من تجاوز أزماتها المرحلية, إلاّ أنّهُ من الناحية الأخرى يُعدّ اضعافًا لعناصر القوة الاقتصادية والعسكرية ضمن الإطار المسـتقبلي، والذي يسهم في تزايد عجز الموازنة الفدرالية وميزان المدفوعات الأمريكي, في ظل الاتساع الحاصل في حجم الاقتصاد المالي وهيمنته على قطاع الاقتصاد الحقيقي.
ثالثا- مخاطر استمرار هيمنة الدولار والدين الأمريكي وضرورة اصلاح النظام الاقتصادي العالمي:
1- لقد استطاعت الولايات المتحدة، في ظل النظام النقدي الدولي الذي يسـتند إلى الاعتماد الواسع على الدولار, أن تحقق الربط الوثيق بين مصالحها في استمرار هيمنة الدولار على التعاملات الدولية, والمصالح المالية والنقدية لدول العالم التي يكون لديها الكثير من الاحتياطيات والأرصدة وسـندات الخزانة الأمريكية المقيّمة بالدولار الأمريكي, من حيث ما يفرضهُ هذا الواقع من رغبة لدى هذه الدول في عدم تدهور قيمة الدولار الأمريكي, حيث تشكّل جميع مواردها بالدولار استحقاقات مالية على الاقتصاد الأمريكي، يمكن أن تتعرض لخسائر كبيرة في حالة انهيار القدرة المالية للولايات المتحدة.
2- تبقى عملية رفع سقف الدين الأمريكي أمرًا حتميًّا في إطار واقع الاقتصاد الأمريكي، بالرغم من كونها تأخذُ منحًا دراميًّا في كلِّ مرة من الأخذ والرد بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس الأمريكي، ليخرجوا بعدها برفع سقف الدين الذي تحتاجهُ الولايات المتحدة, ولاسيّما في ظل هذه المرحلة التي أصبحت تواجه الولايات المتحدة تحديات جديدة, أبرزها اشـتداد صراعها الاقتصادي مع الصين، وصراعها العسـكري مع روسـيا عن طريق الحرب في أوكرانيا, وما تتطلبهُ هذه الصراعات من موارد مالية ونفقات عسكرية كبيرة، لتأمين استمرار النفوذ الأمريكي على النظام العالمي.
3- إنّ عملية الانسـلاخ عن هيمنة الدولار لأمريكي ليست بالأمر السهل, إلاّ عن طريق تحوّلٍ تدريجي نحو استعمال ســلة من العملات الدولية, وكذلك إنشاء عملة احتياط دولية مشتركة للمدفوعات بين الشركاء الاقتصاديين، في مجالات الاستثمار والمبادلات التجارية وفق الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الشركاء, وفي إطار توسيع إنشاء التكتلات الاقتصادية الاقليمية والدولية، وادخال الاصلاحات اللازمة على نظام النقد الدولي، استنادًا إلى الواقع الاقتصادي الجديد لتغيّر مراكز القوى الاقتصادية في العالم، واستحقاقات عملاتها في الأرصدة والمدفوعات الدولية.
4- ينبغي أن لا يبقى الاقتصاد العالمي أسـيرًا للدولار والدين الأمريكي، المولّد للأزمات المالية والاقتصادية التي ضربت اقتصادات الدول, ولاسيّما بعد الحرب الثانية وحتى الوقت الحاضر, فقد كانت جميع هذه الأزمات منشـأها الاقتصاد الأمريكي، واتساع تدفقاتهِ المالية والنقدية التي يشكّل الدولار الحيّز الأكبر منها. وإنّ تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، والتحوّل التدريجي نحو استعمال عملات دولية أخرى, من شأنهِ أن يؤدي إلى خلق فائض في عرض الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية، وإعادة معادلة سعر صرفهِ مقابل العملات الأخرى، وفقا لمستويات العرض والطلب على هذه العملات، واستعمالاتها الجديدة في الاحتياطيات والتعاملات الدولية, ممّا يجعل سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى أكثر توازنًا في سـلة العملات الدولية، وفق المعايير الحقيقية للاقتصاد الأمريكي، وواقع التغيّر في الطلب العالمي على الدولار الأمريكي.
5- إنّ العديد من دول العالم أخذ يتهيّأ لمغادرة مرحلة هيمنة الدولار والدين الأمريكي على الاقتصاد العالمي، في ضوء التغيّر الحاصل في المراكز الاقتصادية العالمية، وتكرار حصول أزمات الديون الأمريكية التي تزيد من فقدان الثقة بسندات الخزانة الأمريكية من قبل المسـتثمرين, إذ سـعت بعض الدول إلى تقليل استثماراتها في هذا المجال, ومنها الصين واليابان والمملكة المتحدة, والتي تُعدّ من كبار الدول المستثمرة في هذه السـندات, فضلاً عن دول عربية نفطية.
لقد أصبح الدولار الأمريكي غير صالح كعملة ارتكاز للاحتياطيات والمدفوعات الدولية، في ضوء استمرار حالة التوسع في رفع ســقف الدين الأمريكي، الذي يخدم المصالح الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة في المقام الأول, ويؤدي إلى وقوع المزيد من الأزمات المالية والاقتصادية التي تتحمل نتائجها الاقتصادات العالمية، من أزمات تضخم، وركود وارتفاع لمعدلات البطالة, والتي تكررت لمراتٍ عديدة على أثر ما يتولد عن حالة الاتساع في الفجوات بين ما ينتجهُ الاقتصاد الأمريكي وما يســتهلكهُ، في ظل استمرار التوسـع في النفقات الاسـتهلاكية، وزيادة اعتمادهِ على القروض الخارجية والفوائض المتحققة في الاقتصادات الأخرى، واحكام ارتباطاتهِ بهذه الاقتصادات عبر قنوات الدولار والتجارة الدولية.
إنّ الكثير من القوى الاقتصادية العالمية باتت تحقق معدلات عالية من النمو الاقتصادي تفوق ما يحققهُ الاقتصاد الأمريكي, ولاسيّما في مرحلةٍ يشـــتدُّ فيها الســباق الذي تحرزهُ الصين، لبلوع الموقع الأول في الاقتصاد العالمي, وتركيز جهودها نحو توسيع مجالات التنمية حول العالم, فضلاً عن التطوّر الاقتصادي اللافت في الهند وغيرها من الدول الآسيوية, وكذلك دول في أوروبا والاتحاد الروسـي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية, والتي أصبحت تتطلع إلى نظام اقتصادي عالمي جديد متعدد الأقطاب ومتعدد العملات، لزيادة الاستثمارات والمبادلات التجارية، ولتعزيز أرصدتها من الاحتياطيات والمدفوعات الدولية، خارج نطاق هيمنة الدولار الأمريكي، والقيود التي يفرضها الاستمرار في رفع سقف الدين الأمريكي, في إطار تطوير فعالية التكتلات الاقتصادية ونشاطها في هذا المجال, ومنها تكتل (بريكس) الذي يضُم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا, وهي الدول التي تُعدّ الأعلى نموًا, كما يمكن أن يضُم المزيد من دول العالم في ضوء المتغيّرات الاقتصادية العالمية الجديدة، من أجل ايجاد عملة احتياط دولية مشتركة للمدفوعات الدولية، ولتوسيع نطاق التعاون الاقتصادي في مجالات التنمية والمبادلات التجارية, وتسريع عملية التحوّل نحو عالمٍ قليل الأزمات تسودهُ التنمية المسـتدامة والرفاه الاقتصادي.
مركز الدراسات الاستراتيجية