جنوب_شمال: تكتلات اقتصادية بأبعاد جيوسياسية
نظراً لاتساع الفجوة بين دول نصفي الكرة الشمالي والجنوبي، والمنافسة الاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية في التجارة العالمية. ثمة عواقب وخيمة في الوقت الراهن نتيجة هذه المنافسة، لأنّ العلاقات بين الدول تقوم على نظريتين: النظرية الواقعية (التي تتعامل بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية)، ونظرية التبعية. ووفقاً للأخيرة، يتم إنشاء مؤسسات دولية متعددة الأطراف للتحكم في مسار العلاقات بين الدول، مثل المنظمات التابعة للأمم المتحدة.
ولذلك وجدنا أنه في الاجتماع الخامس عشر لتكتل BRICS (البريكس وأفريقيا 2023) منذ وقت ليس ببعيد، صرح الرئيس الصيني بأن أنشطة دول البريكس موجودة، لكنها لا تلغي دور المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة. وذكر الرئيس الروسي “فيلاديمير بوتين” في كلمته أنّ أحد أهمّ أهداف تكتل البريكس هو إيجاد عملة بديلة للدولار الأمريكي.
وإذا عدنا إلى تطور الفكر الجيوسياسي الروسي، فقد بدأ بالدراسة النقدية لقيمة الجغرافيا العسكرية والإحصائيات العسكرية التي أجراها وزير الدفاع ديمتري ميليوتين. وسمى عدة مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية واقتصادية لمستقبل الدولة الروسية وأهمها المنطقة الآسيوية. هذا ما يسلّط الضوء على عمق الاتجاه الجيوسياسي الروسي.
بالإضافةً إلى أعمال الجيوسياسي الروسي بتروفيتش سيمونوف – تيان شانسكي؛ فإنّ توسّع الجغرافيا السياسية الروسية، تقوم على فكرة السيطرة على البحار الثلاثة في وقت واحد (البحر الأبيض المتوسط الأوروبي (بما في ذلك البحر الأسود)، بحر الصين (جنباً إلى جنب مع اليابان والأصفر)، ومنطقة البحر الكاريبي (بما في ذلك خليج المكسيك). ومن هنا تأتي أهمية المنطقة الآسيوية لروسيا، سواءً البحار المحيطة لها أم اليابسة، وتظهر أهمية المعركة القائمة في أوكرانيا حالياً، لتأمين جزء كبير من ساحل البحر الأسود. وفي سوريا من خلال وجودها على شواطىء البحر الأبيض المتوسط، إضافةً إلى وجود أهمية للشواطىء الليبية والجزائرية.
في اجتماع مجموعة العشرين G20 التي انعقدت في الهند في ظلّ غياب للرئيسين الروسي والصيني، صاغت الولايات المتحدة الأمريكية الخطة البديلة لمواجهة خطوط التجارة الصيني (الحزام والطريق). بينما ستكون الهند وفقاً للخطة الأمريكية نقطة إرتكاز آسيوية لاحتواء الصين.
بالإضافةً إلى إختيار المملكة العربية السعودية عضواً فاعلاً في المشروع الأمريكي، لكن يبقى السؤال كيف ستوازن هذه الدول وجودها مع تكتلات اقتصادية متعددة؟ وبالتالي التعامل مع المشاريع الاقتصادية المتضاربة بين الولايات المتحدة والصين.
وتدور معظم الصراعات حول المعادن المستخدمة في صناعة الرقائق الإلكترونية، حيث يعد التحول الرقمي أحد الأسباب الرئيسية للصراع بين الدول، ومستقبل عالم اليوم يعتمد على الثورات التكنولوجية والسيطرة عليها.
ترتبط تهديدات الطاقة بأمن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وقد أصبح الاتجاه العام في العلاقات الدولية هو دعم التكتلات الاقتصادية التي تمثل مجموعات من الدول ذات المصالح المشتركة والأهداف الاستراتيجية، والتأثير المباشر على موارد الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي والمعادن، بالإضافةً إلى السيطرة على الموارد الغذائية مثل القمح، وهو أمر في غاية الأهمية للأمن الغذائي العالمي، ومن يسيطر على السوق يؤثر في العلاقات الدولية.
بالإضافة إلى توسيع التحالفات الصغيرة من خلال ثنائيات عسكرية استراتيجية والثلاثية والرباعية، لتحقيق أهداف استراتيجية في المناطق الجغرافية التي تؤثّر على الجغرافية السياسية العالمية.
تواجه الولايات المتحدة الأمريكية التعددية القطبية على مستوى العلاقات الدولية من خلال إنشاء أطر صغيرة مع الدول من أجل معالجة كل قضية وموقعها الجغرافي على حدة. وهذه أيضاً سياسات الصين وروسيا وإيران على مستوى العلاقات الدولية أيضاً. بالإضافة إلى بناء علاقات مع دول الخليج، وخاصة السعودية.
إن تنامي الأولويات المتعلقة بالنشاط الاقتصادي له تأثير مباشر على المشهد الأحادي القطب، وتعتبر العلاقات الاقتصادية من أهم أسس العلاقات الدولية، خاصة بسبب تأثيرها على مصير الشمال والجنوب. لقد تسارع دور التكتلات الاقتصادية بشكل كبير وما نتج عنه من تأثيرات جيواقتصادية.
وبعد انضمام ستة دول إلى مجموعة البريكس، وخاصة بعد أن تجاوز عدد الطلبات لهذا العدد، توصلنا إلى أن معايير القبول ليست شاملة، ولكنها تعتمد على ما يمكن أن تقدمه الدول الجديدة للمجموعة وبالتالي تفعيل دورها الاقتصادي. إذ أصبح لدول عالم الجنوب تكتل اقتصادي مهم (البريكس) الذي أسّس لتثبيت دور الدول الصاعدة اقتصادياً في مواجهة الدول المتقدمة، وعلى رأسها مجموعة السبع (G7 )، لأن هذه التكتلات الاقتصادية أدت إلى تغيرات هائلة في المجال الجيوسياسي، مما أوضح سياق الحروب العسكرية منذ زمن بعيد وحتى اليوم، وخاصة في القارة الأفريقية، للسيطرة على النفط والغاز والمعادن.
لذلك نجد أنه بسبب صعود وتطور اقتصاديات دول الجنوب، ضعفت الاتجاهات القائمة للعولمة والحوكمة العالمية، فبدأت دول الشمال، وخاصة الدول الصناعية، في دمج العولمة والحوكمة باتجاه تحالفات تحمي مصالحها. حيث نوقشت قضايا التنمية والأمن الغذائي في قمّة العشرين في الهند في ظلّ غياب الرئيسين الصيني والروسي، ذلك بهدف حماية مصالح عالم الشمال في دول عالم الجنوب، ومواجهة مجموعة (BRICS).
ويعد التكتل أداة لتحقيق التوازن الاقتصادي في مواجهة دول الشمال، بالإضافة إلى التنمية، ولا سيما تطوير البنية التحتية لربط هذه الدول مع بعضها البعض، والعدالة الاقتصادية بين دول الشمال والجنوب. ولذلك فإن مشروع الصين الاستراتيجي (الحزام والطريق) يواجه اليوم مشروعاً آخر تديره الولايات المتحدة، وهو الخط الأخضر للاستثمار في مجال الطاقة المتجددة، وخاصة الهيدروجين (الذي سيدر أرباحاً ضخمة على الشركات الأميركية)، وهو مجال لتحسين الاستثمار في المستقبل. إضافةً إلى العمل على إنشاء خط سكّة حديد تربط الهند بالبحر المتوسط تسهيلاً للتجارة، إلاّ أنّ ما قد يواجه هذا المشروع هو مسألة التمويل.
ويهدف مشروع الحزام والطريق إلى بناء شبكات البنية التحتية (القطارات والموانئ والطرق…)، وتعزيز التجارة وتسهيل التوصل مع الدول الأخرى، وبالطبع زيادة النفوذ الجيوسياسي للصين من خلال العلاقات الاقتصادية. وهدف الولايات المتحدة من مشروع استثماراتها في مجالات جديدة، هو قطع الطريق على مشروع (الحزام والطريق)، حيث توفر حوافز لبعض الدول من أجل استمالتها.
الموقع الجغرافي للمشاريع الصينية، يفرض عليها أنّ تدخل في شراكات اقتصادية مع دول العالم خاصّةً دول الشرق الأوسط وأفريقيا. ولذلك ستلعب إيران والمملكة السعودية وسوريا دوراً محورياً في هذا المجال، وسيكون تأثيرها الجيوسياسي على الولايات المتحدة الأمريكية كبير.
وهو ما دفع الصين إلى رعاية اتفاق بين إيران والسعودية، ودعوة “بشار الأسد” رئيس الجمهورية العربية السورية لزيارة الصين، والتوقيع على اتفاقيات ثنائية سيكون تأثيرها قريباً على الاقتصاد السوري، خاصةً بالنظر إلى دعم إيران وروسيا للنظام الشرعي في سوريا.
الكاتب:د.محمد مشيك
كاتب سياسي