تمايزت الآراءُ بين حالاتٍ فرديةٍ أو ظاهرة، ولعلّ البعض استنفذ وقته في الحديث حول الاختلاف في المفهوم، فيما ترك جوهر القضية هروبًا من حقيقة أن حالات الانتحار متزايدة بشكلٍ كبيرٍ ودون أي علاجٍ أو إجراءاتٍ وقايةٍ تذكر.
الشَّاب أحمد عابد (32) عاماً من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، آخر شخصٍ أقدم على الانتحار وإنهاء حياته شنقًا حتى كتابة هذه السطور، وهذا لا يعني أنه آخر شخصٍ سيقدم على الانتحار بطريقة يراها فضلى له وهي بكلّ الأحوال ليست فضلى كونها تنهي حياة إنسان كرَّمها الله وأوصانا بها، ومن جانب آخر على ولاة الأمر أينما كانوا مسؤوليةً كبيرةً تجاه الرّعية والمواطنين.
لا أريد أن أسلك مسلك من استنفذوا وقتهم بشرح (المفهوم والمصطلح) لأنّ الأهم والأخطر هو تزايد الأشخاص الذين يلجؤون لإنهاء حياتهم في قطاع غزة عن طريق (الانتحار) بشكلٍ لافتٍ دون تحريك ساكن من قبل حكومة في غزة باتت تحكم (أموات مع وقف التنفيذ) وفصائل لها تدخلاتها وفق مصلحة الحزب وأجندته، وهذا ليس تجني على أحدٍ وإنّما الواقع سيد نفسه والمشهد واضحًا للعلن، فماذا قدم من يقودوا غزة تجاه قضية الانتحار حكومة وفصائل ؟!
في هذا السّياق تشير بعض التقارير والإحصائيات التابعة لوزارة الصحة في غزة: أن حالات الانتحار في تزايد مستمر، ففي عام 2020 سجل 17 حالة من أصل 404، فيما سجل عام 2021 نحو 22 حالة أدت إلى الوفاة، مع العلم أن كلَّ حالة انتحار فعلية يقابلها (21) محاولة انتحار، وفي عام 2022 سجلت 25 حالة انتحار، فيما حاول (535) آخرين إنهاء حياتهم، فيما شهد العام الحالي (2023) قرابة 17 حالة انتحار، وفق (مركز الميزان لحقوق الانسان بغزة) مع العلم أنّه ومن خلال معايشتنا للواقع الغزي ندرك تمامًا، أنَّ هناك المئات من محاولات الانتحار وإنهاء الحياة منها ينجح الشّخص في إنهاء حياته وهناك حالات كثيرة لا تتم، إضافة إلى عشرات الحالات التي ينتحر فيها الشّخص، يصاحبها رفض الأهل الإعلان عن كونها حالة انتحار نظرًا لنظرة المجتمع لابنهم وتبني روايات الحلال والحرام وأنّه دخل بالكفر وعدم المغفرة، إلى آخره من الاعتبارات الاجتماعية.
من جانب آخر هناك أيضًا تداعيات لانتحار الفتيات بالتالي أيضًا يصاحبها شبهة في نظر المجتمع وتقع العملية في دائرة الشّك، بالتالي حسب وجهة نظري لا يوجد عددٌ دقيق حول حالات الانتحار من الفتيات، ولا الشَّباب أيضًا وفق الأسباب السَّابقة الذكر، وربما أيضا قد لا توجد رغبة من الجهات الرَّسمية بتوضيح الأرقام الحقيقية لمحاولات الانتحار والتي أظن أنها وصلت (الآلاف) دون أي مبالغة، وبات هنا مطلوب من حكومة غزة الإفصاح عن أرقام وإحصائيات دقيقة حول المنتحرين المتوفيين، وحول محاولات الانتحار، لأنّ هذا سيأخذنا للبحث في أسباب أولئك الشباب (خاصة) بالتّفكير واللجوء لإنهاء حياتهم.
لقد كان ومازال مؤسفًا حقًا، أنّنا لم نشهد مؤتمرات، (حكومية خاصة) كونها المسؤولة الأولى عن واقع الحال ومستقبل الشباب والمواطنين، ولم نلحظ حراكًا رسميًا وورش عمل ولقاءات مع الشّباب أو الأهالي، للحديث حول الانتحار، ولم تضج وسائل الإعلام والتواصل بهشتاجات وتوصيات وحلول أو إجراءات اتخذتها الحكومة أو الفصائل المغاوير، للحد من الانتحار وإيجاد حلول واحتواء للشباب.
لقد حرم الله الانتحار، وهو غير مقبولٍ دينياً ولا إنسانياً، ولكن مطلوب من الكلِّ الفلسطيني، من ولاة الأمر الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية المواطنين، عليهم أن يكونوا على قدر المسؤولية الوطنية والأخلاقية، وعلى قدر الأمانة التي أخذوها على عاتقهم وسيسألون عنها آجلًا وثم عاجلًا، ونحن نبغض وننكر الانتحار على من يقدم عليه، علينا إزاحة مقومات الانتحار، وتوفير حياة كريمة وفرص عمل وبيئة اجتماعية واقتصادية سليمة للشَّباب خاصةً وللمواطنين عامةً، فما يعيشه الغزيون من فقرٍ وبطالةٍ وحصارٍ وانعدام الأمن الغذائي وإغلاق المعابر، وفرض الضرائب، وضنك العيش، جميعها تشكل ضغوطًا تؤدي إلى التَّفكير بإنهاء الحياة لدى الأشخاص الذين يعانون من اكتئاب أو اضرابات نفسية، وفي حدود علمي جميع هذه الظُّروف تؤدي بالأشخاص إلى اكتئابٍ وأمراضٍ نفسيةٍ، ولعلّ هذا ما أشارت إليه إحصائيات البنك الدَّولي والتي تشير إلى أن (71%) من سكان قطاع غزة يعانون من الاكتئاب، وهذه نسبة خطيرة وتستدعي التّوقف أمامها من كلّ المؤسسات الرَّسمية وغير الرَّسمية بكلِّ جديةٍ والبحث في الأسباب والعمل على الوقاية والعلاج.
لايجب أن تكون حياة الإنسان رخيصة، وغير مسموح المرور عن خبر انتحار شاب مرور البخلاء وبهذا الصّمت المريب، والسّلبية المعيبة.
مازال يطرق بأذني ما سمعته من عدة أيامٍ، أن هناك أكثر من (ثلاثة آلاف) محاولة انتحار في غزة لوحدها خلال عقد ونصف، وأظن أنَّ القادم سيكون مرعبًا أكثر من قبل المواطنين شباب وفتيات ونساء، وسيكون معيبًا أكثر ومخيبًا نحو الجهات الرَّسمية.
كنت أتوقع أنّ أمام هذه الإحصائيات سنجد استقالات جماعية واعتذارات بالجملة، لكنِّي لا أرى سوا صمتٍ غريبٍ وغير مقبول تجاه أخطر ظاهرةٍ ممكن أن تعيشها المجتمعات، فهل الشَّباب الفلسطيني لايستحق ؟!!
د. رانية اللوح